"الشعر ديوان العرب" مقولة حق تناقلتها الأحقاب قرنا بعد قرن, وجيلاً بعد جيل, ومعناها أن الشعر كان سجل تاريخهم بمفهومه الشامل أفرادًا وجماعات, في المنشط والمكْره, في السلم والحرب . ومن الشعر عرفنا أبعادهم, وطبائعهم, وعاداتهم وتقاليدهم, ونظام معاشهم, وطبيعة علاقاتهم الأسرية والقبلية, وملامحهم الدينية والخلقية والنفسية والعقلية.
والشعر هو الذي نقل لنا «أيامهم» أي معاركهم, وحفظ تاريخهم, بل حفظ كثيرًا جدًا من مواقعهم الجغرافية, وقد ترددت أسماؤها في المعلقات وغيرها, مثل: الدخول - حوْمل - اللوي - الدكادِك - تُوضَح - المقْراة - دارةُ جُلجُل - حومانة الدرّاج - المتثلم - ملحوب - القطبيات - الذَّنوب - راكس - ثعالبات - ذات فِـرقين .. إلخ. وأغلب هذه الأماكن اندثر وانتهي, ولكن العلماء المعاصرين حددوا مواقع كثير منها اعتمادا علي الشعر. فلا عجب أن يقول أبو فراس الحمداني (320-537) :
الشعر ديوان العربْ
أبدا, وعنوان الأدبْ
لَم أعْـدُ فيه مفاخري
ومديحَ آبائي النُّجبْ
ومقطَّعات.. ربما..
حَلَّيت منهن الكتبْ
لا في المديح ولا الهجا
ءِ , ولا المجونِ ولا اللعبْ
إنه الشعر البريء من العبثية والتهتك, الشعر الذي يغرس في النفوس القيم الخلقية والمعاني الإنسانية, وقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم «.. وإن من الشعر لحكمة», وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول "ارووا الأشعار, فإنها تدل علي مكارم الأخلاق, وخير صناعات العرب أبيات يقدمها الرجل بين يديْ صاحبه".
...
ومن «ديوان العرب» نقدم قُطوفا طيبة تقودنا إلي التعرف علي بعض ملامح الأسرة العربية:
لقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم «خير كنوز الدنيا بعد طاعة الله زوجة صالحة». وكان المهدي الخليفة العباسي يحب زوجته «الخيزران» حبًا عميقًا, وكانت تبادله حبًا بحب, كتب إليها (من مكة, وهي في بغداد) رسالة شعرية يقول فيها:
نحنُ في أفضل السرور ولكنْ
ليس إلا بكم يتم السرورُ
عيٍبُ ما نحن فيه يا أهل ودًّي
أنكم غبتمُ, ونحنُ حضور
فأجدُّوا المسير, بل إن قدرتم
أن تطيروا مع الرياح فطيروا
فأجابته بردّ شعري في رسالة نصها:
قد أتانا الذي وصفتَ من الشو
قِ, فكدنا - وما فعلنا - نطيرُ
ليتَ أن الرياح كنً يؤدًّ
ين إليكم ما قد يُجِنُّ الضمير
لم أزل صبَّة, فإن كنتَ بعدِي
في سرور, فدام ذاك السرورُ
والخيزران (ت 173) هي زوجة المهدي أم ابنيه الهادي, وهارون الرشيد: وكانت امرأة حازمة متفقهة, أخذت الفقه عن الإمام الأوزاعي, وكانت في الأصل من جواري المهدي, فأعتقها وتزوجها.
*******************
ويحكى أن أم " زينب بنت حدير " قالت للقاضي محمد بن زياد (زوج بنتها) «إنما زينب من النساء, فإن رابك منها شيء فالسوط " (أي فاضربها) , فضحك وقال:
رأيتُ رجالا يضربون نساءهم
فشُلَّت يميني يوم أضربُ زينبا
وكلُّ محب يمنح الودَّ إلفَهُ
ويعذره يوما إذا هو أذنبا
وغيرة الزوجة علي زوجها صفة طيبة, ولكن الشاعرة الأندلسية حفصة الركونيّة, تسرف وتغلو في حرصها علي زوجها, فتقول :
أغارُ عليك من عيني ومني
ومنك, ومن زمانك والمكانِ
ولو أنيً خَبَأتُـك في عيوني
إلي يوم القيامة ما كفاني
*****************
والزوجة العاقلة هي التي تعالج المواقف, وتتعامل مع وقائع الحياة بحكمة ولطف, ومراعاة لمشاعر الزوج وأحاسيسه, وفي هذا المقام يُروى أن أبا حمزة الضبي هجر خيمة زوجته , وأخذ يبيت عند جيران له حين ولدت له بنتًا (وكان يريد ولدًا). فمر يومًا بخبائها, فأخذت ترقص ابنتها الوليدة وتقول (وهو يسمعها) :
ما لأبي حمزة لا يأتينا
يظلّ في البيت الذي يلينا
غضبانَ ألا نلد البنينا
تالله ما ذلك في أيدينا
وإنما نأخذ ما أُعطينا
ونحن كالأرض لزارعينا
نُنبتُ ما قد زرعوه فينا
******************
وفي كتب الأدب صور طريفة, ومضحكة أحيانًا لبعض الزوجات, ومنها الزوجة التي «تشكل» عاطفتها نحو زوجها بقدر ما يحقق من كسبٍ . فيورد المقري في كتابه «نفح الطيب» البيتين التاليين لأعرابي يصور حب زوجته للمال:
إذا رأت أهلُ بيتي الكيسَ مملتئًا
تبسمت, ودنت منيً تمازحني
وإن رأته خَلًيا من دراهمه
تجهمت, وانثنت عني تُقابحني
****************
وفي الأمالي لأبي علي القالي هذه الصورة المضحكة:
قيل لأعرابي : من لم يتزوج امرأتين لم يذق حلاوة العيش, فتزوج بامرأتين, ثم ندم, فأنشأ يقول:
تزوجتُ اثنتين لفرط جهلي
بما يشٍقَي به زوجُ اثنتينِ
فقلتُ أصيرُ بينهما خروفًا
أنعمُ بين أكرم نعجتين
فصرتُ كنعجة تضحي وتمسي
تداول بين أخبثِ ذئبتين
وألقي في المعيشة كل ضرًّ
كذاك الضرّ بين الضرتين
ويدور في هذا الفلك صورة أخري لأعرابي لعب به الشيطان, فطلق زوجته ثلاثا, ثم ندم ندما شديدًا , فقال:
ندمتُ وما تغني الندامةُ بعدما
خرجن ثلاثا ما لهنَّ رجوعُ
ثلاثا يحرًّمنَ الحلالَ علي الفتي
ويصْدعْنَ شِعبَ الدارِ وهْـو جميعُ
. ********************
وفي حبًّ الآباء للأبناء مجال واسع رحيب:
يقول أعرابي لابنه الراحل إلي بلد بعيد, وهو يودعه:
أُودعُكَ الرحمنَ في غربتكْ
مرتقبا رُحماه في أوْبتـِكْ
فلا تُطِلْ حبلَ النوي. إننيً
أشتاقُ والله إلي طلعتكْ
وهناك فن شعري جميل أنشأه حب الأمهات لأولادهن وهو فن ترقيص الأطفال الرضع وتدليلهم بشعر موزون سريع الجرْس. من ذلك قول الأمهات , وهن يرقصن أبناءهن في أول خلافة عثمان رضي الله عنه:
أحبّك للرحمنْ
حبَّ قريش عثمانْ
وقالت فاطمة رضي الله عنها, وهي ترّقص وليدها الحسين بن علي رضي الله عنهما :
وَا بأبي شِبْهُ النبيْ
ليسَ شبيهًا بعليْ
ومن الآباء كذلك من كان يرقص أبناءه, فنري الزبير بن العوام يرقص ابنه عروة, وهو يقول:
أبيضُ من آل أبي عتيقِ
مبارك من ولَد الصدّيقِ
ألذّه كما ألذّ ريقي
********************
حقا: لقد كان الشعر «ديوان العرب». وصدق رسول الله صلي الله عليه وسلم إذ قال «إن من البيان لسحرا, وإن من الشعر لحكمة», وكان عمر رضي الله عنه علي حق حين وصّي برواية الشعر لأنها تقود إلي مكارم الأخلاق.